بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحدهُ ، الآمرُ بالاتباع وترك الابتداع
، فقال عزَّ ذكره : {ثمَّ جعلناك على شريعةٍ مِن الأمر فاتَّبعها ولا تتبع أهواء
الذين لا يعلمون} [سورة الجاثية 18] ، والصلاةُ والسلام على نبيهِ محمد البشير
النذير القائل {إن أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحى إلي} وآله وصحبه أجمعين ، وبعد
:
فهذا مقالٌ مختصرٌ وجيز ، في فضحِ أقوامٍ زعموا
بأنَّهم على طريقٍ مستقيم ، فقالوا لو نحن بأوساط الأمور لكنَّا مِن جملة المهتدين
فبالأوساط نحنُ مستمسكين ، وأوساطُ الأمور هي السلامةُ مِن كل لسان ، والبقاءُ
عليها قطعٌ على المفاسد وجلبٌ للمصالح .
قلتُ : واتِّخاذها منهجًا هو بابٌ لكل آفة ،
ومفتاحٌ للشرور مِن تعطيلٍ لأحكام الله والجرأةِ على تقييمها والانتقاص مِنها . وقد
اغترَّ بهؤلاء الوسطيين بعضٌ مِن المخذولين المغفلين ، واستجابوا لدعوتهم الشيطانية
، ثم رأيتُ أنَّ علماءنا الصادقين قد كتبوا في الرد عليهم ، وجاوزوا حدَّ القدح
فيهم حتى كادوا أن يخرجوهم مِن ملة الإسلام ، كيف لا وهم جهميَّة زماننا ؟ فقلتُ :
لعلي أسير في ركب هؤلاء الصادقين ، وأكتبُ مقالاً مختصرًا وجيزًا أنالُ به الأجر
والثواب وشرف الانتساب إلى مذهب السلف الصالح .
ومِن خلال مقالي هذا أرغبُ في نقد شيوخنا الصادقين
، وإرشادهم لي على مواضع الخطأ مع تصحيح الخطأ وبيان الصواب مِن القول ، والله
المستعان .
المسألةُ الأولى : في بيان منهج السلف
الصالح ، وهو مطلق الاتباع وترك الابتداع والرضا والتسليم لأحكام الله وإن لم تتبين
لهم المصلحة أو العلة مِن الحكم :
أولاً : الأدلةُ مِن القرآنِ والسنَّة على وجوب
الاتباع والتسليم لأحكام الله وشرائعه دون مراعاة المصلحة فيها ، وهي أدلة كثيرة
جدًا أذكر شيئًا مِنها :
* فمِنها قول الله تعالى : {وما كان لمؤمنٍ ولا
مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرةُ مِن أمرهم ومَن يعص الله
ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبينًا} [سورة الأحزاب 36] ، وقد رُويَ مِن الأثرِ في نزول
هذه الآيةِ روايتان : الأولى : أنَّها نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله
صلى الله عليه وسلم على فتاهُ زيد بن حارثة ، فامتنعَت لكونه عبدًا وأنَّها خيرٌ
مِنه حسبًا . والروايةُ الثانيةُ : أنَّها نزلت أُمِّ كلثوم بنتِ عقبة بن أبي معيط
، وذلك أنَّها وهَبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فزوَّجها فتاهُ زيد بن
حارثةَ ، فسخطَت لنَسَبِهِ .
* ومِنها قول الله تعالى : {فليحذر الذين يخالفون
عن أمرهِ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم} [سورة النور 63] .
* ومِنها قول الله تعالى : {لا يُسألُ عمَّا يفعلُ
وهم يُسألون} [سورة الأنبياء 23] . قال ابن جريج رحمه الله في هذه الآية : (لا
يُسألُ الخالقُ عن قضائهِ في خلقهِ ، وهوَ يَسألُ الخلقَ عن عملهم) ، وقال الضحَّاك
في هذه الآية : (لا يُسألُ الخالقُ عمَّا يقضي في خلقهِ ، والخلقُ مسئولون عن
أعمالهم) [انظر تفسير الطبري ج16/ص247] .
* ومِنها قول الله تعالى : {فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلموا تسليمًا}
[سورة النساء 65] .
* ومِنها ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في
خبر وفد ثقيف ، لما جاءوه ليسلموا ويُبايعوا [رواها البيهقي ج5/ص299] ، فإنَّهم
طلبوا مِنه السماح لهم بالزنا لحاجتهم إليه في الغُربة فأبى ذلك ، وطلبوا مِنه
السماح لهم بالربا لأنَّها أموالهم كلها فأبى ذلك ، وطلبوا مِنهُ السماح لهم بالخمر
فأبى ذلك ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم آخذًا بالمصالح لتَدَرَّج بالقومِ
وأعطاهم شيئًا مِن ذلك ولو يسيرًا ليتألف قلوبهم ، ولكنَّه لم يعتبر بهذه المصالح ،
وأبى إلاَّ تنفيذ أوامر الله .
ثانيًا : ذكر شيءٍ مِن آثار السلف في الاتباع
والامتثال المطلق :
* مِنها ما رُويَ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
في إقدامهِ على بعث جيش أسامة بن زيد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو
الجيش الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد قضى بمسيرهِ إلى الشام [رواها الطبري
في تاريخه ج2/ص245] ، فلمَّا مات النبي صلى الله عليه وسلم نجمَ النفاق في المدينة
وعظم وارتدَّ مَن ارتدَّ مِن العرب حول المدينة ، ولم يبق للجمعة مُقامٌ في بلدٍ
سوى مكة والمدينة ، ومع ذلك أرسل الصديق جيش أسامة إلى الشام ، وكان قد أشار عليه
كثيرٌ مِن الناس بأن لا ينفذه لاحتياجه إليهم ، فأبى وقال مقولته الشهيرة : (والذي
نــفـسُ أبي بكر بــيـدهِ ، لو ظـنــنــتُ أنَّ السِّـــباع تخطفني لأنــفـذتُ
بــعــثَ أُسامة كما أَمَر بهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوْ لم يَـــبْقَ
في القُرَى غيري لأنفذتهُ) ، ولو كان رضي الله عنهُ عاملاً بالمصلحةِ ومُفضِّلاً ما
رأى الناسُ مِن مصالح قطعيَّة على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما صنعَ
صنيعهُ هذا ولما قال مقولتهُ هذه ، فلمَّا رجعوا سالمين غانمين تبيَّن للناس بأنَّ
المصلحة الكبرى في فعله رضي الله عنه ، وهابتهم العرب بسبب ذلك .
* ومِــنــهُ قــول عــبد الله بن مــســعـــود
رضي الله عــنــه : (إنَّــا نـــقـــتـــدي ولا نـــبـــتـــدي ، ونـــتـــبـعُ
ولا نـــبـــتـــدع ، ولن نـــضـــلَّ ما تـمســكــنــا بالأثــر) انــتـهى [رواه
اللالكائيُّ ج1/ص96] .
* ومِنهُ قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله : (سنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر بعدهُ سُنَنًا ، الأخذُ بها تصديقٌ
لكتابِ الله عز وجل ، واستكمالٌ لطاعتهِ ، وقوةٌ على دين الله ، وليس لأحدٍ تغييرها
ولا تبديلها ولا النظرُ في رأي مَن خالفها ، فمَن اقتدى بما سنُّوا اهتدى ومَن
استبصرَ بها أبصرَ ، ومَن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاَّهُ الله عزَّ وجل ما
تولاَّهُ وأصلاهُ جهنَّم وساءت مصيرًا) انتهى [رواه اللالكائيُّ ج1/ص106]
.
المسألةُ الثانية : في بيان معنى الوسطية
:
الوسطُ في اللغة يأتي على معنيين :
(1) المعنى الأوَّل : وسط الشيء خيارُهُ وأعدلهُ ،
ومِنهُ قول أبي سفيان لهِرَقل ملك الروم : "هو أوسطنا حسبًا" أي : مِن أشرفنا
وأحسبنا . قال ابن الأثير رحمهُ الله : (ومِنهُ سُمِّيَت الصلاة الوسطى ، لأنَّها
أفضلُ الصلاة وأعظمها أجرًا ، ولذلك خُصَّت بالمحافظة عليها) انتهى [النهاية في
غريب الحديث ج5/ص160] .
(2) المعنى الثاني : الوسطُ هو الجزء الذي بين
شيئين ، وهذا المعنى هو أصلُ مفهوم منهج الوسطية المزعوم في دين الله
.
أمَّا معنى الوسطية في الاصطلاح : فهي
الطريق الوسط في دين الله ، فالوسطيَّة منهجًا : العملُ بما بين الغلو والتقصير
والتشديد والتخفيف . ولتحديد هذا المنهج عند الوسطيين ، فإنَّه لابد لهم مِن معرفة
مقادير المصالح والمفاسد في الأحكام الشرعيَّة حتى يخلصوا إلى الوسط مِنها
.
المسألةُ الثالثة : في بيان حقيقة التوسط في
الدين :
لـمَّا بيَّنا معنى المنهج الوسطي في دين الله ،
ساغ لنا أن نقول : إن دين الإسلام ليس كله وسطًا بين أمرين ، وإذا كنا نتكلم عن
سلوك الوسط في دين الله فإنَّنا نقف أمام نوعين مِن الأحكام :
[1] النوع الأول : أحكامٌ نصَّ الشارع الحكيم على
أنَّها وسط ، وهذه وإن كان الشارع الحكيم قد نصَّ على أنَّها هي الوسط ، فإنَّ علةَ
الأخذ أو العمل بها عند المسلمين ليس لما فيها مِن وسطيَّة ، بل لأنَّها مِن عند
الله وشرع مِن الله ، فالمسلم أمرهُ الانقيادُ والتسليمُ ولو لم تتبيَّن له المصلحة
مِن الحكم .
[2] النوع الثاني : أحكامٌ نصَّ الله عليها ولم
تكن وسطية ، أو ليست بوسطيَّة عند كل ناظر ، بل فيها الكلفة والشدة والمشقة ، وربما
كان فيها الهلاك ، فالتوسط في الأخذ بهذه الأحكام ، خلافٌ للمنصوص عليه ، لأنَّ
المنصوص عليه إنَّما هو مقدرٌ مِن الله ، حتى وإن لم يكن وسطًا ، فهو بلا ريبٍ
حَسَنٌ ، فكل أحكامِ الله حسنة حتى وإن لم يتبين للمكلف حُسْنُها ، كما قال تعالى :
{أليس الله بأحكم الحاكمين} [سورة التين 8] ، وقال تعالى : {أفحكم الجاهلية يبغون
ومَن أحسنُ مِن الله حكمًا} [سورة المائدة 50] .
وفرقٌ كبيرٌ بين سلوك الأحسن وسلوك الأوسط ، ولو
خُيِّر العاقلُ بين سلوك الأحسنِ وسلوك الأوسط لاختار سلوك الأحسن .
ومِن الأمثلة على الأحكام المتضمنة للمشقة والكلفة
واحتمال الهلاك : تبليغ الدين وحماية جنابهِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات
وتغييرها وإزالتها ، فإنَّ الحاصل مِن هذه الأمور في الغالب هو الإعراض والأذى
والتعذيب ، والأنبياء عليهم السلام كانوا يُعذَّبون ويُضرَبون ويداسون بالأقدام
ويذوقون أصناف العذاب في سبيل الله ، ولم يكن لدعوتهم كبيرُ أثر ، ولم يَــستَجِب
لهم إلاَّ القليل ، وهذا لأنَّ الغاية التي تفوق كل الغايات في دعوتهم هي الامتثال
لأوامر الله جل وعزَّ ، وقد كان بأيديهم الكثيرُ مِن الحلول الوسطية ولم يسلكوها ،
بل سلكوا طريق المكاره ، لأنَّه هو المأمور بهِ ، وكلُّ ما أمر الله به فهو الأحسنُ
، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "حفت الجنة بالمكاره" رواه البخاري ومسلم .
وكذلك الحال في مشروعيَّة الجهاد في سبيل الله ، فهو إنَّما يتضمن هلاك الأرواح
والأموال .
والخلاصة : أنَّهُ إذا تبيَّن لنا أنَّ
كثيرًا مِن أحكام الله لا تكون وسطية ، فإنَّ اتخاذَ الوسطيَّة منهجًا عامًا في
الدين بدعةٌ لا يجوز القول بهِ ، وسأذكر البراهين على بدعيَّتهِ بشيء مِن التفصيل
إن شاء الله تعالى .
المسألة الرابعة : في ذكر حجج الوسطيين في
تسويغ منهج الوسطية في الدين :
قد احتجَّ الوسطيون بآيةٍ في كتاب الله وحديثٍ مِن
سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لينقضوا بهما التأصيل السابق ، وسأذكر أبرز
ما احتجوا به مع نقض الوجه الذي استدلوا بهِ :
(1) أولاً : استدلوا بقولهِ تعالى : {وكذلك
جعلناكم أُمَّةً وسطًا} [سورة البقرة 143] . فقالوا : تميَّزت هذه الأمَّةُ بأنَّها
أمةٌ وسطية بنصِّ الله على ذلك ، فعلينا سلوك الطريق الأوسط في ديننا
.
والرد على هذا مِن وجهين :
الوجهُ الأوَّل : أنَّ السنَّة جاءت مفسِّرةً
للوسط في هذه الآية بأنَّ معناها العدل والخير . فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يجيءُ نوحٌ وأُمَّتَه
فيقول الله تعالى : هل بلَّغتَ ؟ فيقول : نعم أي ربِّ ، فيقول لأُمَّتهِ :
هل بلَّغكم ؟ فيقولون : لا ، ما جاءنا مِن نبي ، فيقول لنوح : مَن يشهد لك ؟ فيقول
: محمد وأُمَّتهُ ، فتشهدُ أنَّه قد بلَّغ ، وهو قولهُ جل ذكرهُ : {وكذلك جعلناكم
أُمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس} والوسطُ العدل" . أخرجهُ البخاري والترمذي
والنسائي وأحمد . قلتُ : فالأُمَّةُ الوسط بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا الحديث الصحيح هم "العدول الأخيار" .
وقد اتفقَ السلف مِن المفسرين على أنَّ الوسط في
هذه الآية هو بمعنى العدلُ ، والأمَّة الوسط هم العدول ، فقد روى ابن جريرٍ الطبري
رحمه الله عن أبي سعــيد الخدري ، وابن عباس ، وسعــيد بن جــبــير ، ومجاهد ،
وقــتـادة ، والربـــيع بن أنس ، وعطاء ، وعبد الله بن كثير ، أنَّهم قالوا :
الأمَّة الوسط هم العدول [انظر تفسير الطبري ج2/ص629] ، ولا أعلم لأحدٍ مِن مفسري
السلف قولاً بأنَّ الوسط في هذه الآية هو بمعنى الجزء الذي بين شيئين ، إذ سياقُ
الآية يشهد بخطأ هذا التفسير ، فأُمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم وسطٌ بالجعْلِ ،
أي بجعل الله لهم ، لأنَّهم شهداء على الناس يوم القيامة فهم عدول أخيارٌ ذوو شهادة
، لا أنَّهم بين الناس متوسطين ، فسياق الآية لا يدل على ذلك .
الوجهُ الثاني : أنَّه لو قيل بأنَّ معنى الوسط في
الآية هو الجزء الذي بين شيئين ، فهو ومع كونه تأويلاً ضعيفًا ، إلاَّ أنَّه لا
يتعارضُ مع ما قدَّمتُ مِن التأصيل ، فالجاعلُ في هذه الآيةِ هو الله ، فقال :
{جعلناكم} فليس للمكلف تحديد التوسط وقد حدَّدهُ الله وقدَّره ، ولم يقل في الآيةِ
: "كونوا" ، وكما قدَّمتُ في التأصيل السابق فإنَّ تطبيقَ الوسطية كمنهجٍ عامٍ على
أحكامِ الشريعة ممتنع ، فمن الأحكام ما فيه مشقةٌ وكلفة وهلاك ولا يصح القول عنها
بأنَّها وسطيَّة ، وعلى هذا فالوسطية ليست منهجًا عامًا في الدين ، بل جاءت بعض
الأحكام موافقةً للقول الأوسط مِن الأقوال وجاءت كثيرٌ مِنها بغير التوسط
.
(2) ثانيًا : استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم :
"خيرُ الأمورِ أوساطها" . وهذا رواه البيهقي في السنن وقال : (منقطع) ، وهذا يعني
أنَّه في درجة الضعيف ، وقد لا يكون مِن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فــقـد
رواه ابن أبي شيبة في مصــنــفهِ مِن كلام مطرف بن عبد الله ، فقال : (حدَّثــنـا
عفان ، قال : حدثــنــا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن مطرف قال : خير الأمور
أوساطها) انتهى .
والرد على استدلالهم بهذا الحديث أن يُقال
: إن صَحَّت نسبةُ الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحَّ إسنادهُ ،
فهو ليس بدليلٍ على أنَّ للعبد أن يسلك منهج التوسط في أحكام الله ، فقد قدمنا
بأنَّ المنهج المأمور به هو الامتثالُ المطلق وتركُ الابتداع .
وهذا الحديث محمولٌ على أمور الدنيا المباحة التي
لم يرد النص فيها بتقديرٍ معين ، كالمطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك ، فهنا يختار
المرء الأوسط مِن الأمور استحبابًا ، فلو لبس أحسن الثياب دون أوسطها لما كان
عاصيًا بذلك إجماعًا لقول الله : {قل مَن حرَّمَ زينةَ الله التي أخرج لعبادهِ
والطيباتِ مِن الرزق} [سورة الأعراف 32] .
(3) ثالثًا : استدلوا بأمورٍ في باب العقائد قد
اتَّفق أهل السنَّة على سلوك الوسط فيها ، فقالوا : قد وجدنا مذهب السلف في مسألة
القَدَر هو بين الجبريَّة والقَدَريَّة ، وهكذا الحال في أمورٍ كثيرة ، وهذا دليلٌ
على أنَّ منهج التوسط هو منهجهم .
والرد على هذا بأن نقول : إنَّهُ وإن وافق
كونُ مقالتهم في بعض هذه الأمــور وسطًا بين أمرين ، فإنَّ هذا لا يــعــني أنَّهم
قـالوا بــتـلك الأقـوال لأنَّها هي الوسط ، بل السلف قالوا بتلك الأقوال لأنَّها
الحق الذي دلت عليه النصوص ، ووافقَ كون هذه الأمور التي دلت عليها النصوص وسطًا
بين أمرين . فهذا الدليل إذًا لا يدل على تسويغ الوسطية وجعلها منهجًا
.
ثمَّ وجدنا مِن مقالات أهل السنَّة في باب العقائد
ما ليس بوسطٍ بين بدعتين ، كمقالتهم في الإيمان ، فإنَّ الجهميَّة قالوا بأنَّ
الإيمان هو المعرفة ، وصنفٌ مِن المرجئة قالوا بأنَّ الإيمان هو القول فقط ، وصنفٌ
مِن المرجئة قالوا بأنَّ الإيمان هو التصديق ، وأهل السنَّة يقولون بأنَّ الإيمان
قولٌ وعمل ، فقول أهل السنَّة هنا هو الإيمان بمعناه الشامل ، وقول الجهميَّة هنا
هو أقلُّ شيءٍ يمكن أن يقال في معنى الإيمان ، وبين قولِ أهل السنَّة وقولِ
الجهميَّة بدعٌ متقاربةٌ مِن القولين ، فقول أهل السنَّة هنا ليس بالوسط
.
وكمقالتهم في القرآن ، فإنَّ الجهميَّة قالوا
بأنَّ القرآن مخلوقٌ ، وأهل السنَّة قالوا بأنَّ القرآن كلام الله ليس بمخلوق ،
وصنفٌ مِن الجهميَّة قالوا : نتوقف ولا نقول هو مخلوق أو غير مخلوق ، وصنفٌ مِن
الجهميَّة قالوا : القرآن كلامُ الله لكنَّ لفظنا بهِ مخلوق وسُموا باللفظية . فهنا
قول أهل السنَّة هو كمالُ الإثبات ، وقول الجهميَّة هو كمالُ النفي ، وبين القولين
أقوال ، وعلى هذا فقول أهل السنَّة هنا ليس بالوسط .
المسألةُ الخامسة : في بيان البراهين على
بدعيَّة منهج الوسطيَّة :
وفي بيان بطلان منهج الوسطية وبدعيَّتهِ براهينٌ
واضحة ، أذكر أهمها :
(1) البرهان الأول : أنَّ منهج الوسطيَّة بدعيٌ
لاشتمالهِ على معارضة بعضٍ مِن أحكامِ الشريعة التي لم يتبيَّن للمكلف مِنها مصلحة
راجحة ، أو لاشتمالهِ على معارضة الأحكام التي لم يَــقبَل العقلُ إطلاق التوسط
عليها ، وهذا اعتراضٌ على شرعِ الله بما أرشدت إليه العقول ، وهو ليس إلاَّ الهوى
الشيطاني .
قال الإمامُ أبو القاسمُ الأصبهاني رحمه الله :
(إنَّ الله أسَّسَ دينهُ وبناهُ على الاتباع ، وجعلَ إدراكهُ وقبولهُ بالعقل ،
فمِنَ الدين معقولٌ وغيرُ معقول ، والاتِّباعُ في جميعهِ واجب) انتهى [كتاب الحجة
في بيان المحجة ج1/ص344] .
ومن الأمثلةِ على الأحكام والشرائع المشدَّد فيها
، والتي لم تأتِ وسطيَّة : حديث الأعمى الذي لم يكن له مَن يقوده للمسجد فجاء
يستأذنُ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاةِ في بيتهِ فلم يأذن له عليه الصلاة
والسلام لـمَّا علم أنَّه يسمع النداء ، وهذا الحديث يدل على أنَّ الحكم قد لا يكون
وسطًا ، وقد يرى الناس أنَّ التوسط هاهنا هو صلاته في بيته تارة وفي المسجد تارةً
أُخرى بحسب استطاعته ، إذ الصلاة في المسجد مطلقًا فيها مشقةٌ على هذا الأعمى ،
وتركه الصلاة في المسجد مطلقًا تفريطٌ ، فالحل الأوسط أن يصلي في المسجد متى تيسر
له الحضور ، ويصلي في بيته متى ما لم يقدر على الحضور ، وهذا باطل بلا ريب
.
ومِن أمثلتهِ كذلك : مشروعيَّةُ صلاة الخوف ، فعند
الخوف مِن العدو في القتال يصلي المسلمون صلاةَ الخوف ، وصلاة الخوف ليست حلاً
وسطًا في عقول الناس ، فلو ترك الصلاة مطلقًا لكان مُفرِّطًا ، ولو اشتغل بأدائها
لأهلكهُ عدوُّه ، فتأخيرها إلى انتهاء الخوف أو حصول الأمن هو الوسط بين الأمرين ،
وهذا باطلٌ ، ففي شريعتنا لا تسقط الصلاة بحالٍ ولو في الخوف ، يقول ابن قدامة
(لأنَّه مكلفٌ تصحُّ طهارتهُ فلم يجُز له إخلاءُ وقت الصلاةِ عن فعلها كالمريض)
[المغني ج3/ص317] ، ولأنَّها هي المشروعة المنصوص عليها في هذه الحالة ، فلا يجوز
معارضةُ الأحكام المنصوص عليها بالعقل . وهي الحسنةُ وإن لم يتبيَّن حُسنُها ، بل
الصلاة لا تسقط وإن اشتدَّ الخوف والتحم الناس مع بعضهم بالقتال ، ففي هذه الحالة
يقول تعالى : {فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا} [سورة البقرة 239] ، يعني على أقدامكم
أو ركوبًا تصلون بالإيماء أو الإشارة ، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها ولو في هذه
الحالة ، وهذا كله ليس بوسطٍ عند الناس .
(2) البرهانُ الثاني : عدم انتساب السلف مِن
الصحابة والتابعين للوسطية مع حدوث البدع في زمانهم واستفحالها ، سواء كانت بدع
الغلو أو بدع التفريط والتقصير ، فقد ظهرت في زمان السلف بدع الخوارج وبدعُ الإرجاء
، ولم يُنادِ السلف بالوسطيَّة ، بل نادوا بالاتباع وترك الابتداع ، وصنيع الأئمة
المتقدمين في كتب العقائد يشهد بهذا ، فهم غالبًا ما يعقدون بابًا في وجوب الاتباع
وترك الابتداع ، لأنَّ المبتدعة في الغالب لابدَّ وأن يردوا نصًّا مِن كتابٍ أو
سنَّة .
(3) البرهان الثالث : أنَّ حقيقة الحكمِ على
الأمورِ في شريعتنا إمَّا الحكم عليها بالحق أو الحكمُ عليها بالباطل ، والحق مِن
الأقوال واحد كما يقول جمهور أهل السنَّة ، وأمَّا اختيار الوسط فهو أخذُ جزءٍ مِن
الحق وجزءٍ مِن الباطل ، وهذا باطل ، فليس للمسلم أن يختار إلاَّ الحق ، وليس له أن
يخلط الحق بالباطل ، أو يتخذ بين الحق والباطل سبيلاً .
ويشهدُ لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ
الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرام بيِّنٌ ، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ مِن
الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينهِ وعرضهِ ، ومَن وقعَ في الشبهات وقعَ في
الحرام" أخرجهُ البخاري ومسلم .
واختيار ما بين الحق والباطل هو مِن صنيع اليهود
والنصارى ، كما قال الله تعالى عن اليهود : {إنَّ الذين يكفرون بالله ورسلهِ
ويريدون أن يُفرِّقوا بين الله ورسلهِ ويقولون نؤمنُ ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن
يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقًا} [سورة النساء 150-151]
.
وقد بيَّن الله أنَّ مِن صفات المنافقين الحلول
بين الإسلام والكفر ، فمتى ما وجدوا المصلحة في أحدهما أخذوا بها ، فقال جلَّ شأنه
عنهم : {مذبذبينَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [سورة النساء 143]
.
وقد رُويَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ مِن
صفات المنافقين كذلك رغبتهم في الإصلاح بين المسلمين وأهل الكتاب ، وإيجاد الحل
الوسط لهم ، قال الله تعالى : {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحنُ
مصلحون} [سورة البقرة 11] ، فروى ابن جريرٍ الطبري رحمه الله عن ابن عباسٍ قولهُ
هذا في تأويل هذه الآية ، فقال : (حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل
، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباسٍ قوله : {إنَّما نحنُ مصلحون} أي قالوا : إنَّما نُريدُ
الإصلاح بين الفريقين مِن المؤمنين وأهل الكتاب) انتهى [تفسير الطبري ج1/ص300]
.
المسألةُ السادسة : في بــيـانِ الفرق مِن
حيث زيادة الإيمان ونقصانهِ بين الـمُــتَّــبع الـمُــســلــِّم
لأحكام الله وبين الآخذ بالأحكام لوسطيتها :
فالأوَّل : لا يُعلِّق على المصالحِ مِن الأحكام
عمله بهذه الأحكام ، فلو تبيَّنت له تلك المصالح فإنَّها ستزيدهُ إيمانًا ، وإن لم
تتبيَّن له تلك المصالح فهو لم يزل مؤمنًا بما جاء مِن عند الله لا يُنقِص جهله
بالمصلحة إيمانَهُ ، لأنَّ منهجهُ التسليم والانقياد والامتثالُ المطلق
.
وأمَّا الثاني : فإنَّه قد علَّق على فهم المصلحة
مِن الحكم عملهُ أو أداءهُ ، فلو تبيَّنت له المصلحة فإنَّه يزدادُ إيمانًا ، وإن
لم تتبيَّن له المصلحة فهو إمَّا سالكٌ طريق الإعراض عن شرع الله إلى ما دلَّ عليه
عقله مِن المصالح ، أو داخلٌ في تيارات الشكِّ والريبةِ مِن أحكام الله مع التزامهِ
بأداءِ ما افترض عليه ، وهذا أمرٌ خطيرٌ ، فإنَّ القلب مضغةٌ في الجسد إذا صلحت
صلحَ سائرُ الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولا يُـــؤمَن على هذا الشاك والمرتاب مِن أحكام الله التمرد عليها بنبذها
واستبدالها بما يمليه عليه عقله وهواه ، لأنَّ هذا هو الغالبُ على حال المنتسبين
للوسطية ، وسأذكر مثالين مِن الواقع على نبذهم لأحكام الله وتحكيمهم أهواءهم ، ولن
أُطيل في الرد عليها ، فالعبرةُ بــتــنــبــيــهِ المسلم عنها ، وليس الغرضُ
استعراض أباطيلهم ومناقشتها ، فإنَّ كل بدعةٍ تفرَّعت مِن بدعتهم الخبيثة تحتاجُ
إلى سِفْرٍ مستقل :
(1) فالمثالُ الأوَّل : إسقاطهم فريضة الجهاد في
سبيل الله ، وزعمهم بأنَّ الجهاد إنَّما يكون في الدفاع عن النفس إذا ما قام العدو
بالحرب ، فأسقطوا جهادَ الطلب ، وزعموا أنَّ الوسطيَّة هي الدعوة إلى دين الله
سِلمًا ، وزعموا أنَّ الله حثَّ على السِّلم ونبذَ العنف .
والرَّد على هذا مِن أوجه ، مِنها :
الوجهُ الأوَّل : أنَّ قولَـهم هذا كفرٌ بواحٌ ،
إذ هو عينُ جحد فريضة الجهاد ! ومعلومٌ أنَّ الغالب في غزوات النبي صلى الله عليه
وسلم كونها طلبيَّة ابتدائيَّة ، وقليلٌ مِنها دفاعيَّة ، وهذا يعرفهُ حتى الصغارُ
الناشئة . هذا وإنَّ التفريق بين جهاد الطلب وجهاد الدفعِ تفريقٌ محدثٌ أحدثهُ
المتأخرون ، بل ربما لم يوجد إلاَّ في كلام المعاصرين في هذا القرن أو القرن الذي
قبله .
الوجهُ الثاني : أنَّ قولهم إنَّ الوسطيَّة هي
الدعوة إلى الله سلمًا ، هو قولٌ يُفضي إلى جحد آياتِ القتال في كتاب الله العزيز ،
نحو قوله تعالى : {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [سورة براءة 36] ،
وجحد الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : "أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى
يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" متفقٌ عليه ، وقول هؤلاء هو
عينُ قول المنافقين ، ونحنُ نعلمُ بأنَّ الدعوة واجبةٌ ، كما نعلمُ بأنَّ القتال
واجبٌ ، وقد جُمِعَ هذا في شريعتنا ، فيُدعى الكفار إلى الإسلام ، فإن أبوا
فيُخيَّرون بين الجزية أو السيف ، فإن كان الكافرُ هو الغازي فيتأكدُ وجوب القتالِ
ويتوسَّعُ ، ومَن كان بيننا وبينهُ عهدٌ فيُدعى إلى الإسلام سِلمًا ، وهكذا كانت
أحكامُ الجهاد ، وهؤلاء الوسطيون قد نبذوا هذا كله وتمسكوا بما رأوهُ وسطًا ، فلا
تبتــئس أيها المسلم مِن قولهم ، بل صعِّــر لهم خَدَّك .
(2) المثالُ الثاني : تمييعهم لمعالِــمِ الولاء
والبراء في الإسلام ، فزعموا أنَّ الوسطيَّة هي التعايشُ مع الكفار ونبذ الكراهيَّة
، وزعموا أنَّ الإسلام قد حثَّ على التواد والتراحم ، وقد تجاهل هؤلاء الأبالِسَةُ
قوله تعالى : {لا تجِدُ قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون مَن حادَّ الله
ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [سورة المجادلة 22]
.
وأختمُ مقالي هذا بما قالهُ الشاعرُ في أمثال
هؤلاء المبتدعة :
وما انتسبوا إلى الإسلامِ إلاَّ * * * لصونِ دمائهم ألاَّ
تُسَالا
فيأتون المناكرَ في نشاطٍ * * * ويأتون الصلاة وهم كُسَالى
أسأل الله أن يرزقني والقارئ الكريم العلم النافع
وينفعني وإياهُ بالعلم ، وأن يهدينا ويسددنا ويثبت قلوبنا على ملة الإسلام ، وصلى
الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبهُ : صالح الجبرين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق